سورة القصص - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(37)}
وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى- عليه السلام- فلم يرد عليهم بالقسوة التي سمعها منهم ولم يتهمهم كما اتهموه، إنما ردّ بهذا الأسلوب اللَّبِق، وبهذا الإيحاء: {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار...} [القصص: 37] ولم يقُلْ: إني جئت بالهدى.
ثم قال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [القصص: 37] سواء كنا نحن أم أنتم، ولم يقُلْ: أنتم الظالمون، لقد أطلق القضية، وترك للعقول أنْ تميز.
ومعنى {عَاقِبَةُ الدار..} [القصص: 37] الدار يعني: الدنيا وعاقبتها تعني: الآخرة.
وهذا الأدب النبوي في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة والمعاندين له، وقد خاطبه ربه: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ...} [العنكبوت: 46].
والعلَّة أنك ستُخرجهم من الباطل الذي أحبوه وأَلفوه إلى الحق الذي يكرهون، فلا تجمع عليهم شدتين، لذلك في أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
ورحم الله شوقي الذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة فقال:(النُّصْح ثقيل فلا ترسله جبلاً، ولا تجعله جدلاً) فنُصْحك معناه أنك تقول لمن أمامك: أنت على خطأ وأنا على صواب. فلكي يسمع لك لابد أنْ تستميله أولاً إليك ليقبل منك، ولا تجرح مشاعره فيزداد عناداً ومكابرة، وما أشبه صاحب الخطأ بالمريض الذي يحتاج لمن يأخذ بيده، ويأسو مرضه.
وقد مثَّلوا لذلك بشخص يغرق، وصاحبه على الشاطيء يلومه على نزوله البحر، وهو لا يجيد السباحة، فقال له:(آسِ ثم انصح) انقذني أولاً وأدركني، ثم قُلْ ما شئتَ.
وقال آخر: الحقائق مُرَّة، فاستعيروا لها خِفَّة البيان.
أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي الله نوح عليه السلام، والذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فالأمر يختلف. فالنبي صبر على قومه علَّهم يثوبون إلى رشدهم، أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الآباء.
فما أطولَ صبر نوح على قومه، وما أعظمَ أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه بالكذب والافتراء: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].
فنسب الإجرام إلى نفسه ليُسوِّي نفسه بهم لعلَّه يستميل قلوبهم، لكن، لما كان في علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، ولا فائدة منهم، ولا من أجيالهم المتعاقبة، وبعد أنْ قضى نوح في دعوتهم هذا العمر المديد أمره الله أن يدعو عليهم، حيث لا أملَ في هدايتهم، فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26-27].
ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول في محاورته مع كفار مكة: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
سبحان الله ما هذا التواضع، وهذا الأدب الجم في استمالة القوم، ينسب الإجرام إلى نفسه وهو رسول الله، وحينما يتكلم عنهم يقول {تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] فيُسمِّي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملاً، ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ...}.


{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(38)}
خشي فرعون من كلام موسى على قومه، وتصوَّر أنه سيحدث لهم كما نقول(غسيل مخ) فأراد أن يُذكِّرهم بألوهيته، وأنه لم يتأثر بما سمع من موسى {ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي...} [القصص: 38] يعني: إياكم أنْ تصدّقوا كلام موسى، فأنا إلهكم، وليس لكم إله غيري.
ثم يؤكد هذه الألوهية فيقول لهامان وزيره: {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى...} [القصص: 38] وفي موضع آخر قال: {ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى...} [غافر: 36- 37].
وكأنه يريد أن يُرضي قومه، فها هو يريد أنْ يبحث عن الإله الذي يدَّعيه موسى، وكأنه إنْ بنى صرحا واعتلاه سيرى رب موسى، لكن هل بنى له هامان هذا الصرح؟ لم يَبْن له شيئاً، مما يدل على أن المسألة هَزْل في هَزْل، وضحك على القوم الذين استخفّهم ولعِب بعقولهم.
وإلا، فما حاجتهم لحرق الطين ليصير هذه القوالب الحمراء التي نراها ونبني بها الآن وعندهم الحجارة والجرانيت التي بنَوْا بها الأهرامات وصنعوا منها التماثيل؟ وعملية حَرْق الطين تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، إذن: المسألة كسب الوقت من الخَصْم، وتخدير الملأ من قومه.
وقوله: {لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى...} [القصص: 38] وقبل أنْ يصل إلى حكم فيرى إله موسى أو لا يراه، يبادر بالحكم على موسى {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} [القصص: 38]؛ ليصرف ملأه عن كلام موسى.


{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ(39)}
أي: تكبروا دون حق، وبغير مبررات للكِبْر، فليس لديهم هذه المبررات؛ لأن الإنسان يتكبَّر حين تكون عظمَته ذاتية فيه، أمّا العظمة المخلوقة لك من الغير فلا تتكبر بها، مَنْ يتكبر يتكبَّر بشيء ذاتي فيه، كما يقولون(اللي يخرز يخرز على وركه).
وكذلك في دواعي الكِبْر الأخرى: الغِنَى، القوة، الجاه، والسلطان... إلخ.
لذلك يكره الله تعالى المتكبرين، ويقول في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته جهنم).
والكبرياء والعظمة صفة جلال وجمال لله تعالى تجعل الجميع أمام كبرياء الله سواء، فلا يتكبَّر أحد على أحد(ونرعى جميعاً مساوي) في ظل كبرياء الله الذي يحمي تواضعنا، فلو تكبَّر أحدنا على الآخر لتكبَّر بشيء موهوب له، ليس ذاتياً فيه؛ لذلك ينتصر الله لمن تكبَّرت عليه، ويجعله أعلى منك، وعندنا في الأرياف يقولون:(اللي يرمي أخاه بعيب لن يموت حتى يراه في نفسه).
والمتكبّر في الحقيقة ناقصُ الإيمان؛ لأنه لا يتكبَّر إلا حين يرى الناس جميعاً دونه، ولو أنه استحضر كبرياء خالقه لاستحيا أنْ يتكبَّر أمامه، وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده في الأرض بغير حق.
أما إنْ كان الاستكبار من أجل حماية الضعيف ليعيش في ظلاله فهو استكبار بحق؛ لذلك نقول حين يصف الحق تبارك وتعالى نفسه بأنه العظيم المتكبّر نقول: هذا حق. لأنه حماية لنا جميعا من أنْ يتكبَّر بعضنا على بعض.
وقوله تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} [القصص: 39] فاستكبارهم في الأرض جاء نتيجة ظنهم بأنهم لن يرجعوا إلى الله، وأنه تعالى خلقهم ورزقهم، ثم تفلَّتوا منه، ولن يعودوا إليه، لكن هيهات، لا بُدَّ- كما نقول- لهم رَجْعة.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16